الحقيقة :
هل يقود تطور العلوم إلى إنكار قيام حقيقة نهائية؟
الجواب المقترح : يعتبر الفيلسوف إنسانا عاشقا للحقيقة وباحثا عنها بشكل
دائم ومستمر. ويبين تاريخ الفلسفة أن هناك عدة نظريات وتصورات حول الحقيقة،
تختلف بحسب
المنطلقات العقلية والمشارب المذهبية، ولذلك نجد فريقا من الفلاسفة يقول
بوجود حقيقة مطلقة وثابتة، وفريقا آخرا يقول بحقائق نسبية ومتغيرة. وإذا
تموقعنا في مجال تاريخ المعرفة العلمية، فإننا نلحظ أن التطورات الهائلة
والقفزات النوعية التي عرفها العلم ابتداء من العصر الحديث بينت صعوبة
التمسك بحقيقة واحدة ونهائية، وكشفت عن التعديلات والمراجعات التي طالت
مختلف المفاهيم والتصورات التقليدية حول الحقيقة. هنا يمكننا التساؤل هل
الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ وهل التطورات التي عرفها العلم تؤدي إلى التخلي نهائيا عن أية حقائق مطلقة؟
إذا تأملنا بدقة في السؤال المطروح سنجد أنه يقيم علاقة وثيقة بين تطور
العلوم من جهة، وإنكار قيام حقيقة نهائية من جهة أخرى، وهو يدعونا إلى
إثبات
هذه القضية أو نفيها. لكن الحديث عن مفهوم الحقيقة هو حديث يتجاوز تاريخ
العلوم، ويطال تاريخ المعرفة البشرية عموما والفلسفية منها على وجه
الخصوص. لذلك نجد أنفسنا نتواجد في مجال المعرفة، سواء الفلسفية أو
العلمية، لنعالج إلى أي حد يمكن القول بحقيقة مطلقة ونهائية أو القول بخلاف
ذلك . إذا نظرنا في البدايات الأولى لتاريخ الفلسفة، وجدنا الفيلسوف
اليوناني أفلاطون يقول بوجود حقائق يقينية ومطلقة مكانها هو عالم عقلي
مفارق سماه بعالم
المثل، وهي حقائق يتوصل إليها عن طريق التأمل العقلي الخالص. هكذا اعتبر
أفلاطون أن ما يوجد في العالم المحسوس هو مجرد ظلال وأوهام تمدنا
بها الحواس، في حين يمدنا التأمل الفلسفي بالحقيقة الموضوعية، الثابتة
والخالدة . وقد بين باسكال فيما بعد أن للقلب حقائقه التي لا يمكن للعقل أن
يستدل عليها، وهي حقائق حدسية تدرك على نحو مباشر، يعتقد صاحبها في
ثباتها
وصحتها المطلقة. ولعل الكثير من الحقائق الدينية هي من مثل هذا القبيل .
وفي نفس السياق اعتبر أبو الفلسفة الحديثة ديكارت بأن العقل يحتوي على
مبادئ وأفكار فطرية، لا يمكن الشك في صحتها نظرا لبداهتها ووضوحها
وتميزها في الذهن. ومن ثمة فهي تدرك بشكل حدسي مباشر، ومنها تستنبط باقي
الحقائق الأخرى . وبالرغم من أن كانط قدم فلسفة نقدية حاول منة خلالها
تجاوز النزعتين العقلانية والتجريبية معا، إلا أن هو الآخر، وفي مجال
المعرفة الأخلاقية على
وجه التحديد، يتحدث عن مبادئ وقوانين أخلاقية ذات طابع صوري، مجرد ومطلق .
وفي مقابل هذا التصور المثالي المطلق للحقيقة، نجد تصورات فلسفية أخرى
تقول بنسبية الحقيقة وتطورها. ويمكن أن نورد في هذا الإطار موقف جون
لوك، كأحد ممثلي النزعة التجريبية، والذي يرفض وجود أفكار أولية وفطرية
كتلك التي ادعاها ديكارت، واعتبر على العكس من ذلك بأن العقل صفحة
بيضاء والتجربة هي التي تمده بالمعارف والحقائق. وإذا كانت تجارب الناس
مختلفة، فمعنى ذلك أن الحقائق التي تحملها عقولهم ليست على نفس الشاكلة
والمنوال . أما إذا انتقلنا إلى الفلسفة المعاصرة، فيمكن أن نقدم التصور
البرغماتي كتصور يقول بنسبية الحقيقة وتعددها. ومن بين ممثلي النزعة
البرغماتية نجد وليام
جيمس الذي يرى أن الحقيقة ليست غاية في ذاتها، وأنها لا تمتلك أية قيمة
مطلقة، بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى . هكذا يقدم لنا جيمس
تصورا أداتيا ونسبيا للحقيقة؛ بحيث يقول بارتباطها بالمنافع والوقائع
وبمدى قدرتنا على استعمالها في وضعيات مختلفة . وإذا انتقلنا الآن إلى حقل
المعرفة العلمية الخالصة، وإلى مجال تاريخ العلوم الدقيقة، فإننا نرى أن
ما عرفه العلم من تطور في الأدوات والمناهج المعتمدة،
وما رافق ذلك من ظهور عدة نظريات علمية تتجاوز النظريات السابقة، كان له
انعكاس على تصور العلماء و الفلاسفة لمفهوم الحقيقة ومراجعتهم للعديد
من المفاهيم والتصورات الكلاسيكية. هكذا نجد الإبيستملوجي الفرنسي غاستون
باشلار يؤكد على الطابع النسبي للحقيقة العلمية، ويعتبرها خطأ تم
تصحيحه. فتاريخ العلوم في نظره هو تاريخ أخطاء؛ ذلك أن الكثير من الحقائق
العلمية تم تجاوزها واستبدلت بحقائق ونظريات أخرى جديدة. من هنا
نرى أن الحقائق في مجال العلوم الحقة تختلف من حقل علمي إلى آخر من جهة،
وتتطور بتطور الأدوات والمناهج العلمية المستخدمة من جهة أخرى.
وقد أكد باشلار على أهمية الحوار بين العقل والتجربة في بناء الحقيقة
العلمية؛ ولذلك رفض المبادئ والحقائق البديهية كتلك التي تحدث عنها ديكارت،
كما رفض اعتبار العقل صفحة بيضاء تتلقى المعرفة جاهزة من الواقع كما ذهبت
إلى ذلك النزعة التجريبية الساذجة، وذهب بخلاف ذلك إلى التأكيد على
الطابع البنائي والمتجدد للمعرفة العلمية، خصوصا أن بناءات العقل وبراهينه
لا تتم في نظره بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية. هكذا فحقائق
العقل العلمي المعاصر مشروطة بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهي
ليست حقائق منغلقة ثابتة بل منفتحة على الواقع العلمي الجديد . وإذا كانت
النزعة الوضعية التجريبية تؤكد على التجربة كمعيار لصحة النظرية العلمية،
وتبين الدور الحاسم الذي تلعبه هذه التجربة في التمييز بين
النظريات العلمية وغير العلمية، فإننا نجد بيير تويليي يجسد موقفا يقر من
خلاله بعدم وجود تجربة حاسمة، إذ تظل نتائج التحقق التجريبي جزئية وقابلة
للمراجعة، كما يدعو إلى ضرورة خروج النظرية من عزلتها التجريبية وانفتاحها
على نظريات أخرى تختبر نفسها من خلال مقارنة نفسها بها . وفي نفس السياق
استبدل كارل بوبر معيار التحقق التجريبي بمعيار القابلية للتكذيب؛ بحيث
تكون النظرية علمية إذا كانت قابلة للتكذيب في المستقبل، أي
قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز الثغرات
الكامنة فيها. وهذا يدل على الطابع النسبي والمنفتح للحقائق العلمية . وعلى
العموم، فهناك الكثير من الوقائع التي عرفها العلم المعاصر أدت إلى خلخلة
المفاهيم والأسس التي كانت ترتكز عليها التصورات الكلاسيكية
للحقيقة، سواء في مجال العلم أو الفلسفة الكلاسيكيين؛ فظهر تصور جديد
لمفهومي المكان والزمان مع الهندسات اللاأقليدية ونسبية إنشتاين، كما تمت
زحزحة مبدأي الهوية وعدم التناقض الأرسطيين باكتشاف الطبيعة المزدوجة
للضوء وظهور الفيزياء الذرية، وغيرها من الوقائع التي جعلت، كما أكد
باشلار، العقل الكلاسيكي يعيد النظر في مبادئه والحقائق التي يؤمن بها .
هكذا يمكن أن نستنتج في الأخير أنه كان للتطورات التي عرفها العلم المعاصر
انعكاسات كبيرة على تصور الفلاسفة لمفهوم الحقيقة والنظرية العلمية؛
فظهرت فلسفات تقول بنسبية الحقيقة وخضوعها للمراجعة والتعديل المستمر، غير
أن هذا لا يجب أن يحجب عنا وجود بعض الفلسفات والمذاهب، سواء
في الماضي أو الآن، تتشبث ببعض الحقائق وتعتبرها مطلقة ونهائية، خصوصا إذا
تعلق الأمر بمجالات الأخلاق والدين والسياسة، فنحن نعلم أن للحقيقة
مستويات وأوجه عدة، وما العلم سوى أحد هذه الأوجه .
مقالة فلسفية حول الحقيقة
ما هو مقياس الحقيقة ؟
ما هو معيار الحقيقة ؟
"إن الوضوح و النفع ، والوجود لذاته هي المعايير التي قيست بها الحقيقة عند الفلاسفة " ناقش العبارة
"
1/ المقدمة - طرح الإشكالية -
اختلف الفلاسفة قديما وحديثا حول المقياس الذي يبنى عليه مفهوم الحقيقة ، و
من أشهر المعايير التي عرفها الفكر الفلسفي : معيار الوضوح و هو الشائع
عند العقلانيين ومعيار النفع و المعروف لدى البراغماتيين و معيار الوجود
لذاته و الذي يعتمده الوجوديون و السؤال المطروح : أي معيار من المعايير
السابقة يصلح أن يكون مقياسا للحقيقة ؟
2/ التوسيع -محاولة حل المشكلة -
القضية : ( يستحسن أن يشير التلميذ في البداية إلى معيار الوضوح لأنه يعبر
عن الحقيقة في صورتها المطلقة ) يرى فلاسفة العصر الحديث من أمثال ديكارت
وسبينوزا أن الحقيقة مقياس عقلي ثابت ، لا يتأثر بتغير الزمان أو المكان ،
و الشيء لا يمكن أن يكون
حقيقيا إلا إذا كان واضحا للعقل وضوحا مطلقا . الحجج والبراهين : إن
الإنسان في حياته يعتقد بجملة من القضايا ، و يصدر أحكاما كثيرا حول مواضيع
مختلفة لكن ليس هناك ما يثبت مصداقية هذه القضايا والأحكام سوى
الوضوح والبداهة ، لأن الوضوح مقياس لا تختلف بشأنه العقول و لا يحايث
تغيرات الواقع وتقلباته ، و يتجلى هذا الوضوح في البديهيات الرياضية
كالبديهية التي ترى أنه كلما طرحنا كمية ثابتة من متساويين كلما كانت النتيجة متساوية ، و كقولنا الكل أكبر من الجزء
و في رأي ديكارت أن الفيلسوف لا يستطيع أن يؤكد أمرا إلا إذا كان بديهيا
لذلك كانت أول قاعدة في منهجه هي " ألا يقبل مطلقا شيئا على أنه حق ما لم
يتبين بالبداهة أنه كذلك " ذلك لأن الأحكام السابقة و التصورات المألوفة
الخاطئة يجب أن تكون هدفا لشكنا ، و محلا لمراجعاتنا تمهيدا لاستبدالها
بأفكار
صادقة لا يعود لدينا مجال للشك فيها ، و أهم حقيقة بالنسبة إلى ديكارت هي "
ما الدليل على وجوده " فيقول : " لاحظت أنه لاشيء في قولي أنا أفكر
إذن فأنا موجود " يضمن لي أني أقول الحقيقة ، إلا كوني أرى بكثير من
الوضوح ، أن الوجود واجب التفكير ، فحكمت بأنني أستطيع اتخاذ قاعدة عامة
لنفسي ، وهي أن الأشياء التي نتصورها تصورا بالغ الوضوح و التمييز هي صحيحة كلها
و هذا معناه أن الحكم الصادق والواضح يفرض على العقل أن لا يشك فيه من
جديد ، و هو ليس نتاج عن الحواس والخيال أو ما يفرضه علينا الآخرون . و هو
الحكم الذي عندما نقارنه ذهنيا بحكم باطل ملتبس فإن كفة الحكم الصادق
ترجحه أذهاننا .و هذا تماما ما أشار إله سبينوزا عندما قال : " ..فكما أن
النور يكشف عن نفسه وعن الظلمات ، كذلك الصدق هو معيار نفسه و معيار الكذب
" النقد والتقييم : إذن الحقيقة في نظر هؤلاء العقلانيين مرادفة للوضوح ،
و مصاحبة لأحكامنا المجردة من الشك ، و أن العقل بحكمه عليها بالصدق
يرجحها تلقائيا دون
سواها من الأحكام الزائفة . لكن إرجاع الحقيقة كلها إلى الوضوح بنقل
الحقيقة من مستواها الموضوعي إلى مستواها الذاتي المشخصن ، فتكون بالتالي
كل أحكام الإنسان و الموجهة
بواسطة مكتسبات تربوية و اجتماعية ومذهبية هي عنوان للحقيقة التي يعتقد
بها ما دام أنها في نظره واضحة و بديهية . و التاريخ الإنساني يؤكد أن
الأوربيين في العصر الوسيط قد ركنوا مدة طويلة إلى الفكرة الشائعة التي
ترى بمركزية الأرض للكون ، و بما أنها كانت تتراءى لهم واضحة و بديهية
لم يتقبلوا حينذاك غيرها. يقول أ . بايي : " إن الأفكار الواضحة والبالغة
الوضوح هي في الغالب أفكار ميتة " بمعنى أنها تحتاج إلى تغيير في نفوسنا ،
و
في مقابلها أن الأفكار الثورية الجديدة يجد مكتشفوها صعوبات في نشرها .
على نحو ما يحدث مع الزعماء و المصلحين و العلماء .. نقيض القضية ( يستحسن
أن يدرج التلميذ في هذه القضية المقياسين المتبقيين معا ) و في مقابل هذه
القضية يرى البرغماتيون أن مقياس الحقيقة هو كل ما يمكن أن يقدم للإنسان
منفعة و مصلحة في حياته ، ومن ثمة فالحقيقة ليست واحدة
بل هي متعددة و متغيرة ، ومتأثرة بشكل الواقع الذي يواكبه الأفراد ، أما
الوجوديون فالحقيقة الأولى في نظرهم هي الوجود الإنسان و ما يقتضيه هذا
الوجود من شروط ضرورية كحريته ، و إنجازه لماهيته
الحجج والبراهين : ومن الأدلة التي يبرر بها البراغماتيون موقفهم : أن
الحكم لا يكون متصفا بالصدق إلا إذا دلت التجربة على أنه مفيد نظريا و
عمليا ، و بذلك تكون
المنفعة هي المعيار الوحيد لتمييز صدق الافكار من باطلها و بتعبير ساندرس
بيرس : " إن الحقيقة تقاس بمعيار العمل المنتج ،" أي أن الفكرة الفارغة
من محتواها العملي و نتائجها الملموسة لا يمكن أن تكون تعبيرا صادقا عن
مدلول الحقيقة ، فهذه الأخيرة تعكس كل الحلول العملية و النفعية التي تنقل
الإنسان من أوضاع رديئة إلى أوضاع راقية . و من صورة سلبية إلى صورة
إيجابية ، يقول وليام جيمس : " إن النتائج التي تنتهي إليها الفكرة هي
الدليل
على صدقها و مقياس صوابها " ، و يفهم من هذا أن الحقيقة لا توجد أبدا
مستقلة ومنفصلة عن الفعل أو السلوك ، و ليس في الوجود حقيقة واحدة بل
هناك جملة متكثرة من الحقائق ، و أي حقيقة هي قابلة للمراجعة بسبب الواقع
المتغير ، و التجدد المستمر للتجربة الإنسانية فالصدق هنا هو صدق بالنسبة
إلى الواقع الذي ليس متحجرا و لا ثابتا على حال ، يقول وليام جيمس : " إن
كل ما يؤدي إلى النجاح فهو حقيقي ، و إن كل ما يعطينا أكبر قسط من
الراحة وما هو صالح لأفكارنا و مفيد لنا بأي حال من الأحوال ، فهو حقيقي "
أما الفلاسفة الوجودية لا يرون تعبيرا صادقا للحقيقة إلا من خلال الوجود
الإنساني الحسي الذي يشعر به كل واحد منا في عالمه الداخلي و يعيشه بكل
جوارحه و مشاعره ، و من خصائص هذا الوجود لا يشبه عالم الأشياء في سكونها و
ما يطرأ عليها من حتميات ، بل هو وجود متنامي و مستمر و قابل
في كل مرة للإستبدال ، يقول هيدغر : " "إن الكائن اليوم هو الكائن القابل
للاستبدال" أي أنه وجد من أجل أن يصنع ماهيته من جهة ، ومن أجل أن
يموت من جهة أخرى ، وبين الحياة والموت توجد تجربة وجودية تتضمن القلق و
المحن و ثقل المسؤولية . لذلك يضع الوجوديون بخلاف العقلانيين
الوجود الإنساني
و ما يستدعيه من شعور باطني و انفعالي فوق كل حقيقة يقول كيركغارد : " إن
النتائج التي تنتهي إليها المحنة " passion هي وحدها الخليقة بالإيمان
هي وحدها المقنعة " إذن لا حقيقة عند الفرد إلا ما يحياه و ينفعل له "
النقد والتقييم : إن الحقيقة بالنسبة للبراغماتيين و الوجوديين سواء لم
تبارح نطاقها الواقعي و الإنساني ، و أنها متى ابتعدت عن مصالح الإنسان أو
حياته الوجودية كانت
باطلة ومستبعدة . لكن إذا سلمنا مع البراغماتيين بالمقياس النفعي للحقيقة
يجعل من الصعب إلزام جميع الناس بأفكار نعتقد أنها تصلح لهم قاطبة ، أي
أنه ما يبدو لشخص
منا نافعا و صالحا قد يكون ضارا بالنسبة لشخص آخر . و الأفكار التي تبدو
صالحة للفرد قد تضر بالمصلحة العامة . أما عن حصر الحقيقة في حدود التجربة
الذاتية للإنسان و الشعور بها ، فهذا تضييق لمعنى الحقيقة التي هي سابقة
عنه ، و مستمرة بعده ، و أيضا
إرجاعها عند حدود الإنسان معناه الحكم علي الإنسان بالعزلة عن كل ما هو
موجود معه ، و حمله عل التمرد عن نظمه وقيمه الإجتماعية ، وجعل حريته
هي علة أخلاقه و قيمه و هذا الذي يعبر عنه كيركجارد يقوله : " اختر ذاتك
قبل أن يختارها لك الآخرون " التركيب : و لتهذيب هذه المواقف المتعارضة حول
مفهوم الحقيقة ، يجب التأكيد أن معيار صدق أحكامنا و أفكارنا بالنسبة
للعقلانيين هو مدى وضوحها و قدرة
العقل على تمييزها من غيرها
و من جهة ثانية أن ميل الإنسان إلى ما ينفعه و الابتعاد عما يضر بمصالحه ،
هو ميل طبيعي بالنسبة إلى البراغماتيين من شأنه أن يجعل الحقائق في
حياة الإنسان متنوعة و متكثرة و متغيرة ، و أما اهتمام الوجوديين بالوجود
العيني الإنساني فهو اهتمام بالحقيقة التي لا تتكرر بالتجربة أكثر من مرة
في
نظرهم . و التي هي جديرة بالاهتمام أكثر من الاهتمام بغيرها . الخاتمة (
حل المشكلة ) و في الأخير فإن الإجابة عن مسألة الحقيقة ظت فلسفيا مرتبطة
بطبيعة الأنساق الفكرية والمذهبية لدى الفلاسفة و متأثرة بنظرياتهم و
تصوراتهم حيال
الوجود ، لكن حل هذه المشكلة يفرض اعتبار معيار الحقيقة معيارا موضوعيا
مفارقا لكل ما من شأنه أن يحصر الحقيقة في إطار ذاتي ضيق ، و أن
يسمو بها عن كل تقلبات الواقع و نزوات الإنسان و أهوائه .
- اذاكنت امام موقفين متعارضين يقول أولهما:ان معيار الحقيقة هو الوضوح,و
يقول ثانيهما أن معيارها النفع و يدفعكالقرار إلى أن تفصل في الأمر
فتصف المعيار السليم الذي يرشد إلى الحقيقة ، فما عساك أن تصنع ؟
طرح المشكلة:الرغبة في المعرفة هي في الواقع رغبة في الحقيقة, في إدراك
حقيقة الأشياء و حقيقة الإنسان , والوجود عامة. غير أن تاريخ الفلسفة يبين
أن هناك عدة نظريات وتصورات حول الحقيقة و معاييرها، تختلف بحسب المنطلقات
العقلية والمشارب المذهبية، ولذلك نجد فريقا من الفلاسفة يقول أن
الحقيقة معيارها الوضوح، وفريقا آخرا يقول بمعيار المنفعة. فهل الحقيقة تقاس بالبداهة و الوضوح أم أن مقياسها النفع و العمل المنتج؟
محاولة حل المشكلة:الأطروحة الأولى:إن مقياس الوضوح و البداهة و الصدق و
اليقين هو أساس الحقيقة المطلقة للفلسفة ومن أنصار هدا الرأي ديكارت
و سبينوزا فلقد كانت أول قاعدة في المنهج الذي سطره ديكارت ألا يقبل مطلقا
على انه حق ما لم يتبين بالبداهة و أن لا يأخذ من أحكامه إلا ما يتمثله
عقله
بوضوح تام بحيث لا يعود لديه مجال للشك فيه بمعنى أن معيار الحقيقة لديه
هو العقل. وكل ما يبدو للعقل بديهيا فهو حقيقي أي كل الأمور التي لا يجد
العقل شك في التصديق بها نظرا لوضوحها فإنها إذن الحقيقة وقد فجر العصر
الحديث بمقولته الشهيرة – انأ أفكر إذن أنا موجود وهو المعيار الذي يدافع
عنه سبينوزا أكثر حين يؤكد أن الحقيقة لا تحتاج إلى أي معيار خارجي عنها
مادامت هي معيار ذاتها.فمن يمتلك فكرة صحيحة لا يحتاج إلى من يعلمه
ذلك أو من يؤكد له.لان الفكرة الصحيحة تخبر عن نفسها و تؤكد ذاتها مادامت
تبدو بديهية جدا لصاحبها و البديهي يفرض نفسه على العقل انه يفرض
نفسه بوضوح تام. يقول...فكما أن النور يكشف عن نفسه و عن الظلمات,كذلك
الصدق هو معيار نفسه و معيار الكذب( مناقشة:غيران إرجاع الحقيقة كلها
إلى الوضوح يجعلنا نلجأ إلى معيار ذاتي فقد نحس بأننا على صواب في أحكامنا
على أساس الوضوح و لكن قد يقف احدنا بعد ذلك على خطاه انه مقياس
ملتحم بالحياة السيكولوجية الذاتية)ما يتوافق مع تربيته و ميوله و
اتجاهاته(. لأطروحة الثانية: هذا ما أدى إلى معارضة شديدة لهذا الطرح
للحقيقة و
أعطى بديلا فلسفيا يتجلى في معيار النفع و من ممثليه أقطاب البراغماتية
أمثال:بيرس و جيمس فالحكم يكون صادقا متى دلت التجربة على انه مفيد
نظريا و عمليا وبذلك تعتبر المنفعة المحك الوحيد لتميز صدق الأحكام من
باطلها فالحق لا يوجد أبدا منفصلا عن الفعل أو السلوك فنحن لا نفكر في
الخلاء وإنما نفكر لنعيش وليس ثمة حقيقة مطلقة بل هناك مجموعة متكثرة من
الحقائق التي ترتبط بمنافع كل فرد منا في حياته.يقول بيرس)إن الحقيقة
تقاس بمعيار العمل المنتج أي أن الفكرة خطة للعمل أو مشروع له وليست حقيقة
في ذاتها( و يضيف جيمس )إن النتائج أو الآثار التي تنتهي إليها فكرة
هي الدليل على صدقها و مقياس صوابها( ناقشة:إذا اعتمدنا على معيار النفع
نكون مضطرين إلى عدم قبول القضايا التي ليست لها نتائج عملية
واستبعادها من دائرة القضايا الصحيحة.ثم إن مفهوم المنفعة واسع جدا هل هو
منفعة الفرد الخاص أم منفعة الجماعة؟. لتركيب:إن مقاييس الحقيقة تابعة
لطبيعة هاته الحقيقة و مجالاتها و فلسفة أصحابها فهي موجودة في فكرة
الوضوح و البداهة عند العقلانيين و المنفعة والمصلحة عند البراغماتيين كما
أن
الحقيقة مجالها هو الإنسان المشخص في وجوده الحسي و حقيقة الإنسان هي في انجاز ماهيته كما يرى الوجوديون مع سارتر
حل المشكلة: إذن ، إن تعارض القولين لا يرفع بالضرورة صحتهما معا, فإذا
كان مقياس مطابقة العقل للتجربة المؤشر الأهم في الميدان العلمي, فان
الوضوح و البداهة هو الميزان المناسب لمعرفة الحقيقة الفلسفية كما ان محك الحقيقة اللدنية لدي الصوفية هو الذوق .
أبطل الأطروحة التالية:إن الحقيقة مطلقة . طرح المشكلة: من الملاحظ أن
الواقع متغير وما هو متغير نسبي يختلف إدراكه من شخص لأخر مما يجعل الحقيقة
نسبية غير أن هناك من اعتقد أن
الحقيقة مطلقة وهي ما يطمح إليه الفيلسوف غير أن هذه النظرية فيها الكثير
من المبالغة و الخطأ وهذا ما يدفعنا إلى الشك في صدقها.فكيف يمكن إبطال
ذلك؟ محاولة حل المشكلة: 0- عرض الأطروحة و البرهنة عليها: إن الحقيقة
مطلقة يستطيع الفيلسوف بلوغها عن طريق العقل أو الحس ونجد هذا النوع
من الحقيقة في الفكر الأفلاطوني حيث يميز أفلاطون بين عالمين عالم الأشياء
الذي يشكل مادة إدراك حواسنا وهو متغير قابل للفناء,وعالم المثل الذي لا
تدركه الأبصار و هو ثابت ومطلق.فتتميز الحقيقة المطلقة بكونها مجردة من كل
قيود وغير مرتبطة بأحكام الناس وهي مستقلة لا تحتاج من اجل وجودها
إلى علل و أسباب لا تخضع للزمان و المكان.ونفس الطرح نجده عند أرسطو الذي
تكمن الحقيقة المطلقة عنده في المتحرك الذي لا يتحرك. 2- عرض
مناصري الأطروحة ونقدهم: إن هذه النظرية لها مناصرين وهم أصحاب المذهب
العقلاني بقيادة ديكارت الذي يجعل من الحقيقة مطلقة انطلاقا من الحكم
الصادق الذي يحمل في طياته معيار صدقه وهو الوضوح.)نقدهم(ولكن هذه
الأطروحة فيها مبالغة إذ كيف نفسر التعدد و الاختلاف في الحقائق هذا من
جهة و من جهة أخرى الحقيقة المطلقة من منظور فلسفي حقيقة مجردة
ميتافيزيقية وهي حقائق يصعب إدراكها بالعقل لعجزه عن بلوغها,وإذا تجرا على
تناولها كانت نسبية و متغيرة بتغير ظروف صاحبها النفسية الفكرية
والاجتماعية وفي هذا السياق عبر الفيلسوف الفارابي عن صعوبة إدراك حقائق
الأشياء يقولالوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر,ونحن لانعرف من
الأشياء إلا الخواص واللوازم و لا نعرف الفصول المقومة لكل منها(.كما
أن الحقيقة من منظور الصوفية هي الأخرى متغيرة و نسبية نسبة إلى إيمان الشخص ومدى عمق قوته وضعفه الذي يجعل من الحقيقة حقائق متغيرة
بتغير مستوى إيمان أصحابها رفع منطق الاطروحة بحجج شخصية: إن الحقيقة
المطلقة هي حقيقة مطلقة في ذاتها لكنها حقيقة متغيرة ونسبية عندما تتعلق
بالإنسان لأنها متوقفة على الواقع النفسي و الفكري و الاجتماعي,فالحقيقة
التي يتحدث عنها الفلاسفة يتحدثون عنها ضمن انساق و مذاهب مما يجعلها
تحت رحمة النسق فاله اقلاطون ليس اله أرسطو , واله أرسطو ليس اله
ديكارت,وهذا ما أكده كانط بقوله )الحقيقة المطلقة لايحتضنها عقل ولا يدركها
علم ). حل المشكلة: من خلال ما سبق ذكره يبدو إن القول بالحقيقة المطلقة
ليس له ما يبرره مما يدفعنا إلى رفض هذه الأطروحة ونقد مسلماتها والرد على
حججها و بالتالي فهذه الأطروحة باطلة ويجب رفضها .